رعد عبد القادر ..الشاعر أكثر كرماً من الحياة

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
08/02/2011 06:00 AM
GMT



(الصورة: الشاعر رعد عبد القادر)
يوم الثامن من كانون الثاني عام 2003، كان آخر يوم ألتقي فيه رعد عبد القادر.أثناء لعبنا الدومينو، سألته: ماذا عن السكري؟ كيف تشعر؟ ابتسم، وقال: لقد طمأنني الطبيب، وأشعر فعلاً أن وضعي يتحسن.كان رعد خلال عاميه الأخيرين غالباً ما يأتي من عيادة طبيبه إلى مقهى الجماهير..
وكنت كثيراً ما أتحاشى سؤاله عن النتائج..كنت أخشى سماع أخبار سيئة وأخشى عليه أن يبقيه مثل هذا السؤال في دوامة المرض.السؤال عن الشعر أكثر جدوى وقيمة خصوصاً أن رعد كان يكتب في العامين الأخيرين بشكل يومي تقريباً..في الفترة نفسها كنت أكتب (طغراء النور والماء)..كنت أحتاج إلى أن أقرأ جديده بقدر حاجتي إلى سماع رأيه وملاحظاته في النصوص التي أنجزها من الطغراء الذي لم أجد حين قررت طبعه ما أشرف به الكتاب سوى إهدائه إلى رعد عبد القادر الذي اطلع على الجزء الأهم من العمل الأول في الكتاب (نهار عباسي) وعلى جانب من العمل الثاني فيه (رواية الهدهد).
في هذين العامين أنجز رعد (صقر فوق رأسه شمس)..مجموعة كبيرة في قيمتها وفي عدد نصوصها التي أنجزت بالكامل في غضون شهرين تقريبا..وكنت أفكر بصمت أن رعد يريد أن يستبق الموت بهذه الغزارة وبهذا التدفق الشعري الذي لا يتأتى إلا لشاعر كبير، وكان رعد عبد القادر شاعراً فذاً كبيراً..لقد كانت نصوص الصقر مثل حياة رعد..نصوص تتوالى فيها الجمل والصور وتتسابق مثل نيازك تمر خاطفة ثم لا تلبث أن تنطفئ وتموت في ظلام.
كانت هذه أعظم سنوات رعد في الشعر..لكنها أسوأ سنواته في الحياة..
كانت سعادة العمل في الشعر والإنجاز به تخفف من تعاسة أيام ترمي بقسوتها عليه.كان التوازن صعباً ومستحيلاً، لكن رعد، بإشراقه الحي، كان دائما ما يميل فيرجح كفة سعادة الشعر..وكنت أنظر في هذا الحطام الذي يتراكم في الأعماق، أعماق شاعر شجاع.
لقد حسم أمره من قبل السلطة على أنه شاعر معارض لا فائدة ترتجى منه..فيما بدأ جسده الفتي ومحياه الجميل يذويان شيئا فشيئا تحت ضربات المرض الذي لا يرتجى لمن يكون ضحيته شيء.
لم تكن بيننا أسرار، كنت أعرف اعتمال امتزاج الخوف من السلطة بمشاعر كبرياء المعارض في ذات رعد وهو يبوح لي بتمزق في داخله بين الاستجابة لنداء شقيق له في عمان بالمغادرة والتحرر من الحال الذي فيه، وبين رغبته هو في البقاء في البلد والوقوف على مصير السلطة والبلد والناس الذين ينتظرون حرباً متوقعة الحدوث في كل حين..شخصياً اقترحت عليه أن يغادر، وان يعتزل الجميع في عمان، ما دامت أسرته ستبقى في بغداد وما دامت بغداد على وشك مواجهة المصير.قلت هو وقت لكتابة الشعر وللعلاج من المرض..قال لي: ولماذا ما دمت أكتب بهذه الحرية..وما دام المرض يتراجع ولا أثر له.
وقبل أن نفترق في اليوم الأخير، يوم الثامن من كانون الثاني، عرض علي أن أبحث له عن بيت للإيجار في حي أور، حيث أقيم، قال إن الحرب ستبدأ وأتوقع معارك أو قصفاً شديداً في الغزالية التي يقيم فيها..أجبته: لا تقلق، سيكون بيتانا لكلينا حسب الموقف في منطقة أي منا..اتفقنا على هذا الأمر..وواصلنا لعبة الدومينو.
في هذه السنوات تعلمنا لعبة الدومينو، وكان من أغرب المشاهد أن تجد يومياً في مقهى الجماهير حلقة من الأربعة: سهيل سامي نادر ورعد عبد القادر وقاسم محمد عباس وأنا، وينضم للحلقة أصدقاء آخرون، كان بينهم علي بدر وصفاء صنكور ومحمد الغزي، فيما كان آخرون يأتون من حلقات أخرى فينضموا إلى الحلقة الصامتة..لقد كانت الحلقة صامتة فعلاً طوال اللعب، وكان الصمت هو دافع الانصراف إلى خيار الدومينو في المقهى الذي بات مكانا لتجمع مثقفين، صحفيين وأدباء وفنانين وأساتذة جامعة، ومعهم طلبة وباعة وهاربون من خدمة الجيش وعاطلون عن العمل..كانت الأيام ساخنة بأحاديث الحرب المنتظرة ومصير السلطة وأفق الحرية الذي يلوح غامضاً، وكان صمت الدومينو هو ملاذ المجموعة التي كانت تتحسب من رصد أمني متوقع لمثل هذه الأماكن وهذه التجمعات..في إحدى المرات وفي منتصف وقت اللعب والاندماج فيه تناول رعد حقيبته وأخرج نصاً طويلاً..كان عنوانه الدومينو، قرأته..وكان من أفضل ما كتب رعد ومن أفضل ما خرجنا به من أيام الصمت والدومينو في مقهى الجماهير.
يستطيع رعد بمهارة نادرة أن يستخلص من تفاصيل الحياة اليومية ومراراتها تراجيدياً تمتزج بسخرية لم يألفها الشعر كثيراً، خصوصاً الشعر العراقي المعروف بصرامته وجديته الحادتين..ينسحق رعد في النص ويسخر، يتألم ويبتسم، يفكر ويُجَن، يتأمل ويندمج، ليخرج بنص يضع المرء على شفا لحظته السوداء في التاريخ، لحظة من المرارة والضحك والحب والكره والقوة والضعف والتحدي والاستسلام.
هذه هي لحظة الدومينو التي تكثف من جديد زمن (دع البلبل يتعجب) ثم (الأطروحة الشعبية)، هذين العملين الساحرين اللذين بهما، وبأعمال أخرى لشعراء آخرين، تخلّت قصيدة النثر في العراق عن التهويم الشعري اللغوي الفضفاض الذي هيمن على كثيرين في عقد الثمانينات، وانتقلت إلى فضاء تعبيري آخر يُعنى بالموضوع ويهتم بالمعنى الشعري ويتخفف من ادعاءات مبهمة سابقة عن تفجير اللغة واحتقار الدلالة الشعرية وتسفيه أية قيمة إنسانية لعمل الشعر سوى قيمة التداعي الحر والفوضوي للصور والكلمات.
لكن تجربة رعد عبد القادر، حتى في ثمانينات اللامعنى الشعري، بقيت بمنأى عن تلك الفوضى..لقد أسهم بحيوية في إنجاز التحول إلى قصيدة النثر.. لكن بإبقاء مسافة واضحة بين طبيعة عمله في الشعر وبين الطبيعة التي اختار التحول باتجاهها شعراء آخرون، سواء ممن اصطلح على تسميتهم بالسبعينيين أو الثمانيين. ويمكن الإشارة إلى عمله الشعري المهم الذي أنجزه في الثمانينات (أوبرا الأميرة الضائعة) كبرهان على الطبيعة الخاصة لعمل رعد في الشعر واهتمامه بالمعنى الشعري ونأيه عن مجانية التعبير اللغوي في الكثير من الشعر، شعر آخرين، الذي أنجز بالتزامن مع الأوبرا، وفي بحر الثمانينات.
في الثمانينات تعرفنا في سنتها الأولى على بعضنا.
حدث تعارفنا بمصادفة غريبة كان ثالثنا فيها الصديق الشاعر شاكر لعيبي..
ففي اليوم الذي قرر فيه شاكر مغادرة العراق نهائياً كنا معاً في مقهى البرلمان..على مقربة منا في المقهى كان رعد عبد القادر..قال لي شاكر، وكان يتكتم على موضوع هجرته، ونحن نهم بمغادرة المقهى: لأودع رعد..هذا رجل يستحق أن أودعه ولا أخشى معرفته بأمر سفري..في هذا الوداع تعرفت على رعد..وقبل تعارفنا كنت قد قرأت لرعد وكان قد قرأ لي، وبعده بدأت صداقة كان يومها الأخير في الثامن من كانون الثاني 2003، افترقنا مساء في مقهى الجماهير..
يوم السبت، الحادي عشر من كانون الثاني، ومن مبنى جريدة الجمهورية، اقتادني ثلاثة من رجال المخابرات.
في السيارة البيك آب، وكنت في مقعدها الخلفي بين ضابطين، وفي الطريق السريع إلى سجن الحاكمية كان الصمت ثقيلاً..تجرأت وطلبت أن يسمح لي بالتدخين، رفض الاثنان بازدراء..غير أن الثالث  الذي كان في المقعد الأمامي أمرهما بالموافقة:لا بأس.. ليدخن!، ميزت نبرته الطيبة، لكن الذهن كان بعيداً عن الجميع منشطراً باتجاهين: لماذا جرى اعتقالي؟ من جانب، ومن جانب آخر تأمل في شريط صور الأطفال والزوجة والعائلة الكبيرة وصور الأصدقاء يتقدمهم رعد..
في السجن كان حضور رعد دائما معي، في زنزانتي الانفرادية.
كنت أخشى أن يجرجر إلى التحقيق بسببي، كان معروفاً أنه من أقرب أصدقائي، وقد يكون مفيداً في التوصل إلى سر لم يبلغوه، هكذا تخيلتهم يفكرون، وأنا أرمى في الزنزانة الانفرادية في الثالثة عصر اليوم نفسه، إنها الساعة التي غالباً ما نلتقي فيها معظم الأيام في مقهى الجماهير،..فيما كنت، أحياناً أخرى، أتحسب من أن يستغل وضعي لجرجرة رعد للتحقيق أو التوقيف في أيام ملتبسة ومشحونة بكل الاحتمالات.
وبعد عشرة أيام انفرادية، تحولت إلى زنزانة أخرى مع سجناء آخرين، وجدت سجيناً من سامراء، كان نجل كليدار روضة الإمامين العسكريين، كان زميل رعد عبد القادر في الابتدائية والإعدادية، فكان رعد تاريخاً مشتركا بيني وبين ذلك الرجل السامرائي النبيل، وموضوعاً لأحاديث يحتاج إليها سجينان في زنزانة لا يميزان فيها الليل عن النهار.
يوم الأحد الثاني عشر من كانون الثاني جاء رعد إلى بيتي، التقى زوجتي وأولادي مستفسراً عما إذا كانوا بحاجة إلى أمر ما..تصفه زوجتي في ما بعد: كان واضحاً  عليه القلق، وكان واضحاً حجم الألم الذي يواريه عن امرأة جاء ليخفف عنها و ليطمئنها في شأن لا يحتمل الاطمئنان.
في ليل ذلك اليوم، بقى يهاتف أصدقاء مثقفين طالباً تدخلهم لإطلاق سراحي..كما روى لي ذلك، في ما بعد، الأصدقاء أنفسهم.
صباح اليوم التالي وجد رعد وحيداً ميتاً في بيته، وقد فتح كل نوافذ البيت وأبوابه.
حينما تغلق الحياة كل نوافذها على الشاعر، ينهض الشاعر فيفتح النوافذ كلها على العالم. الشاعر أكثر كرماً من الحياة.